هارفارد تتجاهل أساتذتها المختصّين في معاداة الساميّة | ترجمة

مظاهرة داعمة لفلسطين في «جامعة هارفارد» | جوزيف بريزيسيو

 

العنوان الأصليّ: Harvard Is Ignoring Its Own Antisemitism Experts.

الكاتب: Peter Beinart.

المصدر: Jewish Currents.

 


 

في السابع والعشرين من تشرين الأوّل (أكتوبر) 2023، بعد نحو ثلاثة أسابيع من الاضطرابات في الحرم الجامعيّ، المتعلّقة بردود الطلّاب على هجمات «حماس» في السابع من تشرين الأوّل (أكتوبر)، والقصف الإسرائيليّ اللاحق على غزّة، أعلنت كلودين جاي رئيسة «جامعة هارفارد» في عشاء يوم السبت في «هارفارد هيليل»، أنّها تعمل على إنشاء مجموعة استشاريّة لتوجيه جهودها لمكافحة معاداة الساميّة في الحرم الجامعيّ. وفي رسالة بالبريد الإلكترونيّ بتاريخ التاسع من تشرين الثاني (نوفمبر) كشفت عن أعضاء المجموعة، وهم مجموعة من إداريّي «جامعة هارفارد» وخرّيجيها وأساتذتها والحاخامات المنتسبين إليها.

وضعت رسالتها إلى مجتمع الجامعة بعض الخطط الأوّليّة للمجموعة، بما في ذلك "برنامج تعليميّ وتدريبيّ قويّ للطلّاب وأعضاء هيئة التدريس والموظّفين حول معاداة الساميّة بشكل عامّ، وفي «جامعة هارفارد» على وجه الخصوص". كما قدّمت الرسالة الإلكترونيّة إشارة إلى توجّه الفريق الاستشاريّ. لاحظت جاي أنّ التدريب سيتناول "جذور بعض الخطابات الّتي سُمِعَت في حرمنا الجامعيّ في الأسابيع الأخيرة". وأدانت على وجه التحديد عبارة "من النهر إلى البحر"، وهي شعار مؤيّد لفلسطين قالت إنّه يعبّر عن "معاني تاريخيّة محدّدة توحي إلى الكثير من الناس بإبادة اليهود من إسرائيل، وتثير الألم والمخاوف الوجوديّة داخل مجتمعنا اليهوديّ".

لماذا لم يُخْتَر بنسلار؟ أحد الأسباب المحتملة أنّه وقّع على «إعلان القدس حول معاداة الساميّة» (JDA)، الّذي ينصّ على أنّ انتقاد الصهيونيّة أو معارضتها ليس بالضرورة معاداة للساميّة.

ولكن، في حين تشير رسالة جاي إلى أنّ الفريق الاستشاريّ سيستكشف ما تصوّره علاقةً مقلقة بين معاداة الساميّة والنشاط من أجل حقوق الفلسطينيّين، لم يُجْرِ أيّ من أعضائه أبحاثًا أكاديميّة حول هذا التقاطع المفترض. الغائب الأبرز عن الفريق الاستشاريّ كان ديريك بنسلار، مدير «مركز الدراسات اليهوديّة» في «هارفارد»، والباحث البارز في الصهيونيّة وبين منتقديها. يشمل كتابه الأخير المشهود له، «الصهيونيّة: حالة عاطفيّة» (2023)، فصلًا بعنوان «كراهية الصهيونيّة»، حول الدوافع المختلفة الّتي دفعت مناهضي الصهيونيّة منذ نشأتها. نظرًا إلى أهمّيّة أبحاثه، كان من المتوقّع أن يكون بنسلار خيارًا واضحًا للمجموعة الاستشاريّة. ولكن وفقًا لأربعة من أعضاء هيئة التدريس المطّلعين على الدراسات اليهوديّة في «هارفارد»، والّذين طلبوا عدم الكشف عن هويّاتهم من أجل مناقشة الشؤون الجامعيّة الداخليّة، فإنّ الأمر لم يتوقّف على عدم اختيار بنسلار ليكون جزءًا من الفريق، بل أنّه لم يُسْتَشَر في الموضوع حتّى. قارن أحد الأساتذة تجاهل بنسلار بـ "إنشاء فريق عمل حول الذكاء الاصطناعيّ، دون استشارة رئيس قسم علوم الكمبيوتر".

لماذا لم يُخْتَر بنسلار؟ أحد الأسباب المحتملة أنّه وقّع على «إعلان القدس حول معاداة الساميّة» (JDA)، الّذي ينصّ على أنّ انتقاد الصهيونيّة أو معارضتها ليس بالضرورة معاداة للساميّة. على النقيض من ذلك، فإنّ معظم الأشخاص المعيّنين في المجموعة الاستشاريّة - ولا أحد منهم يمتلك خبرة بنسلار - قد أدلوا بتصريحات عامّة تزعم أنّ معاداة الصهيونيّة معاداة للساميّة، أو ينتمون إلى منظّمات تتبنّى هذا الرأي. على الرغم من ادّعاء رسالة جاي الإلكترونيّة بأنّ المجموعة الاستشاريّة ملتزمة بـ "تسخير مهمّتنا التعليميّة والبحثيّة" في مكافحة معاداة الساميّة، فإنّ تكوين المجموعة يوحي بأنّ أعضاءها اختيروا ليس بناء على مؤهّلاتهم العلميّة بل بسبب معتقداتهم السياسيّة، الّتي تتماشى ومعتقدات المتبرّعين المؤثّرين، الّذين كان بعضهم قد سحب تمويله بالفعل أو هدّد بذلك.

***

لم تكن «جامعة هارفارد» الوحيدة الّتي طغت فيها الاعتبارات السياسيّة على الأكاديميّة في أعقاب السابع من تشرين الأوّل (أكتوبر)؛ فقد استجاب رئيسا «جامعة نيويورك» و«جامعة بنسلفانيا» أيضًا لضغوط الخرّيجين لتعريف معاداة الصهيونيّة بصفتها كراهية اليهود، مع مبادرات مصمّمة لتأكيد هذا الرأي. وبذلك لا يهدّدون الخطاب المؤيّد للفلسطينيّين فحسب، بل يقوّضون النزاهة الأكاديميّة لجامعاتهم. يقول ليور شتيرنفيلد، أستاذ مشارك في التاريخ والدراسات اليهوديّة في «جامعة بنسلفانيا»: "يعرف العلماء ذوو الرؤية الأكثر دقّة لمعاداة الساميّة أنّ تحدّي أنشطة حكومة، أو حتّى التساؤل عن شرعيّتها، ليس معاداة للساميّة. ومع ذلك، تُرْفَض خبرتهم أو تُهَمَّش لأنّها ليست ما يريده المتبرّعون والنخبة اليهوديّة. إنّهم لا يريدون حوارًا علميًّا أكثر عمقًا حول معاداة الساميّة".

مجموعة «هارفارد» الاستشاريّة تمثّل محاولة الجامعة للاستجابة لقلق الطلّاب وضغوط المتبرّعين، الّتي ظهرت في الأسابيع الّتي تلت السابع من تشرين الأوّل (أكتوبر). في المساء التالي لهجوم «حماس»، أعلنت «مجموعة طلّاب الدراسات العليا في هارفارد من أجل فلسطين»، و«لجنة التضامن مع فلسطين»، بتأييد من أكثر من 30 مجموعة طلّابيّة أخرى في الحرم الجامعيّ: "نحن، المنظّمات الطلّابيّة الموقّعة أدناه، نعتبر النظام الإسرائيليّ مسؤولًا بالكامل عن كلّ العنف الّذي يتكشّف". في ذلك الإثنين، أصدرت الرئيسة جاي ومسؤولو «هارفارد» الآخرون بيانًا تجاهل تأكيدات الطلّاب، وأعربوا عن "حزنهم الشديد للموت والدمار الّذي أحدثه هجوم «حماس»".

واستمرّ تأثير بيان الطلّاب - وما يراه النقّاد خطأ جاي في عدم إدانته على الفور - في ملاحقتها منذ ذلك الحين. في ذلك الإثنين نفسه، كتب أحد رؤساء جامعة «هارفارد» السابقين، لورانس سمرز، أنّ "الصمت من قيادة «هارفارد»... مقترنًا ببيان المجموعات الطلّابيّة الصريح، والمذاع على نطاق واسع، الّذي يلوم إسرائيل وحدها" قد تركه "خائب الأمل، وشاعرًا بالاغتراب". وأدان النائب سيث مولتون، خرّيج «هارفارد»، قيادة الجامعة "الّتي يعتبر صمتها تواطؤًا"، وذكر أنّ المستثمر كينيث جريفين الّذي تبرّع بأكثر من 500 مليون دولار للجامعة، اتّصل ببيني بريتزكر، وهي زميلة رئيسيّة في مؤسّسة «هارفارد»، وحثّ «هارفارد» على إصدار بيان دفاعًا عن إسرائيل.

في العاشر من تشرين الأوّل (أكتوبر) فعلت جاي ذلك بالفعل؛ أدانت ’مذبحة‘ «حماس» باعتبارها ’مشينة‘، وقالت إنّ مجموعات الطلّاب المؤيّدة لفلسطين لا تتحدّث "باسم جامعة «هارفارد» أو قيادتها". بعد يومين، أصدرت فيديو أعلنت فيه أنّ "جامعتنا ترفض الإرهاب. وهذا يشمل الفظائع الوحشيّة الّتي ارتكبتها «حماس»". ولكن  ردود الفعل العنيفة استمرّت في التصاعد. في الثالث عشر من تشرين الأوّل (أكتوبر)، أعلن الملياردير الإسرائيليّ إيدان أوفر أنّه يستقيل من مجلس إدارة «مدرسة كينيدي» في «هارفارد»؛ احتجاجًا على ردّ فعل الجامعة تجاه السابع من تشرين الأوّل (أكتوبر). بعد ثلاثة أيّام، أنهت «مؤسّسة وكسنر»، الّتي كانت تموّل الزمالات في «مدرسة كينيدي» لعقود، دعمها لأنّها كانت "مذهولة ومريضة من فشل قيادة «هارفارد» المروّع".

"يعرف العلماء ذوو الرؤية الأكثر دقّة لمعاداة الساميّة أنّ تحدّي أنشطة حكومة، أو حتّى التساؤل عن شرعيّتها، ليس معاداة للساميّة. ومع ذلك، تُرْفَض خبرتهم أو تُهَمَّش لأنّها ليست ما يريده المتبرّعون والنخبة اليهوديّة".

في الوقت نفسه، أبلغ بعض الطلّاب اليهود عن تعرّضهم للمضايقة، خاصّة على لوحة الرسائل المجهولة في «هارفارد» المعروفة باسم (سايدتشات)، حيث أعلن أحد البلاغات عن رسائل تقول: "دعهم يحترقون". وعبّر الطلّاب الإسرائيليّون عن قلق خاصّ. أخبرني أستاذ في «هارفارد» أنّ طالبًا إسرائيليًّا كان قد روى تعرّضه للاتّهام بأنّه قاتل في الفصل. أرسل خرّيجون بارزون رسائل مفتوحة، من بينهم السيناتور ميت رومني والملياردير، المستثمر في صناديق تحوّط، بيل أكمان، ينتقدون فيها قيادة «هارفارد» لعدم اتّخاذ إجراءات ضدّ معاداة الساميّة في الحرم الجامعيّ. وقد أشار كلاهما إلى فيديو يُزْعَم فيه التحرّش بطالب إسرائيليّ يصوّر ’مظاهرة الموت‘ من أجل غزّة، حتّى مع تقديم بعض الطلّاب لتفسيرات مختلفة عن الحادث.

بعد ذلك بفترة قصيرة، بدأ منتقدو جاي يطالبونها بفعل أكثر من مجرّد التنديد ببيان الطلّاب الأوّليّ. في الأوّل من تشرين الثاني (نوفمبر)، ذكرت صحيفة «ذا بوسطن غلوب» أنّ 1200 من خرّيجي «هارفارد» كتبوا رسالة مفتوحة يطالبون الجامعة بتبنّي تعريف «التحالف الدوليّ لإحياء ذكرى الهولوكوست» لمعاداة الساميّة، الّذي يدرج ضمن أمثلته لكراهية اليهود "الادّعاء بأنّ وجود دولة إسرائيل هو مسعًى عنصريّ". وتحدّى أكمان في رسالته في الرابع من تشرين الثاني (نوفمبر) صراحةً "التزام «هارفارد» بحرّيّة التعبير"، مدّعيًا أنّ إعادة جاي تأكيدها هذا المبدأ في فيديو الثاني عشر من تشرين الأوّل (أكتوبر): "أرسلت رسالة واضحة بأنّ التصريحات الإباديّة والمعادية للساميّة الّتي أطلقها المتظاهرون مقبولة في الحرم الجامعيّ"، وقد استهدف بخاصّة عبارة "من النهر إلى البحر".

***

يرى بعض أعضاء هيئة التدريس في «هارفارد» أنّ «لجنة معاداة الساميّة» تمثّل خضوعًا لضغوط المتبرّعين. "يبدو لي أنّ قيادة «هارفارد» جرى التنمّر عليها بشكل فعّال للغاية"، هكذا قال لي ستيفن ليفيتسكي، أستاذ العلوم السياسيّة في «هارفارد». معظم أعضاء اللجنة قد صاغوا مواقف مشابهة لتعريف معاداة الساميّة؛ وفقًا لتعريف «التحالف الدوليّ لإحياء ذكرى الهولوكوست»، أو لهم علاقات بمنظّمات تتبنّى هذا الرأي. اثنان من الأعضاء الثمانية الأصليّين، جيرالدين أكونيا-سنشاين والحاخام ديفيد وولبي، منتسبان إلى «رابطة مكافحة التشهير» (ADL)، الّتي تصرّ على أنّ معاداة الصهيونيّة معاداة للساميّة، وطلبت في تشرين الأوّل (أكتوبر) من قادة الجامعات التحقيق في فرع مجموعة «طلّاب من أجل العدالة في فلسطين» في الجامعة؛ وهي أبرز مجموعة طلّابيّة معادية للصهيونيّة في البلاد، لمخالفات لسياسة الجامعة أو القانون الفيدراليّ. تعمل أكونيا-سنشاين في مجلس إدارة «رابطة مكافحة التشهير» (ADL)، والحاخام ديفيد وولبي زميل حاخاميّ فيها، وقد أكّد أنّ الأشخاص الّذين "ينكرون شرعيّة دولة إسرائيل" لا ينبغي دعوتهم للتحدّث في "الجامعات والمؤسّسات الأخرى الّتي تحترم الحوار العقلانيّ". أعلن وولبي استقالته من اللجنة في أوائل كانون الأوّل (ديسمبر) 2023، مدّعيًا أنّ "الأيديولوجيّة الّتي تسيطر على العديد من الطلّاب وأعضاء هيئة التدريس في «هارفارد» تصوّر اليهود مضطَهِدين"، وبالتالي أنّه "لا يمكنه إحداث التغيير الّذي كان يأمله".

اقترح أعضاء آخرون في اللجنة أيضًا أنّ معاداة الصهيونيّة معاداة للساميّة. في مقال لعام 2019، ألقت الكاتبة دارا هورن الشكّ في الجهود الرامية إلى التمييز بين المفهومين، معلنة بسخرية أنّها اكتشفت أصول المفهوم الّذي يُفْتَرَض أنّه جديد اليوم: "اليهود الّذين ليسوا بالطبع معادين للساميّة، كيف يمكن أن يكونوا كذلك؟ فهم يهود! بل مجرّد معادين للصهيونيّة". في بحثها عن أصول اليهود المعادين للصهيونيّة، كان يمكن لهورن أن تبرز حركة «أجودات إسرائيل الأرثوذكسيّة»، أو «البوند الاشتراكيّ»، أو جزءًا كبيرًا من «الحركة الإصلاحيّة الأمريكيّة اليهوديّة»، حيث عارضت قطاعات واسعة من اليهود في العالم إنشاء دولة يهوديّة في أوائل القرن العشرين. بدلًا من ذلك، ادّعت أنّ اليهود المعادين للصهيونيّة بدؤوا مع «يبسكتسيا»، وهي مجموعة سوفييتيّة قامت في بدايات الاتّحاد السوفييتيّ بـ "اضطهاد وسجن وتعذيب وقتل الآلاف من اليهود". والتلميح واضح من هورن: معاداة الصهيونيّة - وكانت دائمًا - معاداة للساميّة.

هذا أيضًا ما تلمح إليه مقالة كتبها عضو آخر في اللجنة، أستاذ «كلّيّة اللاهوت» في «هارفارد» كيفن ماديغان، وهو مؤرّخ للمسيحيّة الوسيطة، الّذي رحّب في عام 2015 بإعلان الكنيسة الكاثوليكيّة أنّ "الهجوم الصريح على دولة إسرائيل أيضًا معاداة للساميّة". اقترح عضو اللجنة إريك نيلسون، أستاذ في «هارفارد» يتخصّص في الفكر السياسيّ الأوروبّيّ والأمريكيّ الحديث، وجهة نظر مماثلة العام الماضي، عندما أشار إلى تأييد صحيفة «ذا هارفارد كريمسون» لمقاطعة إسرائيل مثالًا على "اندلاع معاداة الساميّة في الحرم الجامعيّ". تضمّ اللجنة أيضًا ثلاثة أعضاء لم يعلنوا مواقف عامّة حول معادلة معاداة الصهيونيّة ومعاداة الساميّة. من بينهم عميدة «كلّيّة الحقوق» في «جامعة هارفارد» السابقة مارثا مينو، الّتي دافعت عن حرّيّة التعبير الفلسطينيّة، وعميد طلبة «كلّيّة هارفارد» توماس دون، الّذي لا يمتلك سجلًّا عامًّا للآراء حول معاداة الساميّة أو إسرائيل. والعضو الأخير طالب جامعيّ في «هارفارد» يُدْعى نيم رافيد، كان قد عمل سابقًا متحدّثًا باسم رئيس «لجنة الشؤون الخارجيّة والدفاع» في الكنيست الإسرائيليّ.

معظم أعضاء اللجنة قد صاغوا مواقف مشابهة لتعريف معاداة الساميّة؛ وفقًا لتعريف «التحالف الدوليّ لإحياء ذكرى الهولوكوست»، أو لهم علاقات بمنظّمات تتبنّى هذا الرأي.

علاوة على توجّهها الأيديولوجيّ، فإنّ السمة الأخرى المميّزة للجنة نقص الخبرة العلميّة في ما يتعلّق بإسرائيل-فلسطين أو معاداة الساميّة. لا يدرس أيّ من أعضاء الفريق الموضوع الأوّل (إسرائيل-فلسطين)، بينما لا يختصّ في الموضوع الثاني إلّا ماديغان، المتخصّص في معاداة الساميّة في الكنيسة الكاثوليكيّة، وهو موضوع بعيد جدًّا عن نوع معاداة الساميّة المتعلّقة بإسرائيل، الّذي تلمّح إليه رسالة جاي، والّذي من المفترض أن تنظر فيه اللجنة. في المقابل، عندما عيّنت «جامعة هارفارد» لجنة لدراسة إرث العبوديّة في الجامعة في عام 2020، كان 12 من أعضائها الـ 13 أساتذة في «هارفارد» يعملون في مجالات ذات صلة.

لم يكن من الصعب تجميع لجنة مماثلة ذات مؤهّلات عالية حول معاداة الساميّة من داخل صفوف «هارفارد»، خاصّة في ما يتعلّق بالنقاشات حول إسرائيل-فلسطين. إضافة إلى بنسلار، تضمّ «هارفارد» سارة روي، الّتي بالإضافة إلى أنّها واحدة من أبرز خبراء العالم حول «حماس» والاقتصاد السياسيّ لقطاع غزّة، هي أيضًا ابنة ناجين من الهولوكوست، وكتبت بقوّة عن كيف ساعدها الإذلال الّذي شهدته في غزّة على فهم تجربة والديها مع معاداة الساميّة في أوروبّا.

العام الماضي استضافت الجامعة المحاضر الزائر سكوت أوري، الّذي عمل لمدّة عشر سنوات مديرًا لـ «معهد ستيفن روث لدراسة معاداة الساميّة والعنصريّة» في «جامعة تل أبيب»، وبدلًا من اختيار خرّيجة «هارفارد» دارا هورن، الّتي تخصّصت في الأدب الييديشيّ والعبريّ، كان بإمكان «هارفارد» اختيار خرّيج آخر، أستاذ «جامعة برينستون» جوناثان جريبتز، الّذي كتب كتابين يتعاملان مع ردود الفعل الفلسطينيّة على الصهيونيّة: «تعريف الجيران: الدين، العرق، واللقاء الصهيونيّ-العربيّ المبكّر» (2014)، و«قراءة هيرتزل في بيروت: جهود منظّمة التحرير الفلسطينيّة لفهم العدو» (2024).

من المحتمل أنّ «هارفارد» قد تجاهلت هؤلاء الخبراء؛ لأنّ آراءهم تعقّد الخلط بين معاداة الساميّة ومعاداة الصهيونيّة. مثل بنسلار، وقّعت روي على «إعلان القدس» حول معاداة الساميّة، الّذي، على عكس تعريف «التحالف الدوليّ لإحياء ذكرى الهولوكوست»، ينصّ على أنّ المعارضة للصهيونيّة ليست بالضرورة معاداة للساميّة. في الواقع، أيّ لجنة تضمّ علماء يعملون على معاداة الساميّة والصهيونيّة وإسرائيل-فلسطين، من المحتمل أن تفشل في تهدئة المتبرّعين الغاضبين في «هارفارد». وذلك لأنّ الباحثين بشكل عامّ في مجالات الدراسات اليهوديّة وإسرائيل-فلسطين، يميلون إلى أن يكونوا أكثر نقدًا لإسرائيل، وأقلّ ميلًا إلى تسمية هذا النقد بالتعصّب، مقارنة بمنظّمات يهوديّة تقليديّة مثل «رابطة مكافحة التشهير». "عدد كبير من الأشخاص الّذين يشغلون مناصب في دراسات إسرائيل لا يدافعون عن إسرائيل - ما يفعلونه يزعج أشخاصًا يريدون منهم القيام بدور الدفاع عن إسرائيل"، هكذا قال يائير والاخ، محاضر في دراسات إسرائيل في «جامعة سواس» في لندن، لمجلّة «جويش كارنتس» (Jewish Currents) العام الماضي.

***

في عام 2021، وقّع أكثر من 200 باحث في الدراسات اليهوديّة ودراسات إسرائيل، على رسالة تصف إسرائيل-فلسطين بأنّها "فضاء لامساواة منهجيّة"، وتدافع عن الحقّ في المقاطعة. في حين أنّ كلًّا من تعريف «التحالف الدوليّ لإحياء ذكرى الهولوكوست» و«إعلان القدس» لديهما مئات من الموقّعين الأكاديميّين، فإنّ نسبة أعلى كثيرًا من الموقّعين على «إعلان القدس» هم من الباحثين في الدراسات اليهوديّة، بينما تعمل غالبيّة المؤيّدين لتعريف «التحالف الدوليّ لإحياء ذكرى الهولوكوست» في مجالات غير ذات صلة. وجزئيًّا، بسبب تردّد باحثي الدراسات اليهوديّة في تأييد التعريف المفضّل «للمؤسّسة اليهوديّة الأمريكيّة لمعاداة الساميّة»، دعا آلان ديرشوفيتز مؤخّرًا إلى حلّ أقسام الدراسات اليهوديّة في أمريكا، الّتي يدّعي أنّها "مليئة بمعادي الصهيونيّة".

أطلقت جامعات مرموقة أخرى مبادرات ضدّ معاداة الساميّة منذ السابع من تشرين الأوّل (أكتوبر). أنشأت رئيسة «جامعة بنسلفانيا»، إليزابيث ماجيل، لجنة عمل جامعيّة خاصّة بها حول معاداة الساميّة، قبل أن تُجْبَر على الاستقالة في أعقاب جلسة استماع في الكونغرس، حيث فشلت في الإعلان بشكل مباشر بأنّ مصطلح ’انتفاضة‘، الّذي ادّعى أعضاء الكونغرس دون دليل أنّه يشكّل دعوة لإبادة اليهود، سيكون محظورًا في الحرم الجامعيّ. وتضمّ مبادرة «بنسلفانيا»، الّتي جاءت أيضًا بعد غضب المتبرّعين وتقارير عن معاداة الساميّة، مديرو «برنامج الدراسات اليهوديّة» في الجامعة ومركزها للدراسات اليهوديّة المتقدّمة. ولكن، كما في «هارفارد»، لا يقوم أيّ من أعضائها بأبحاث علميّة حول إسرائيل-فلسطين. وكما في «هارفارد»، يشير تكليف اللجنة في «جامعة بنسلفانيا» إلى وجود رابط بين معاداة الساميّة والنشاط من أجل حقوق الفلسطينيّين.

بسبب تردّد باحثي الدراسات اليهوديّة في تأييد التعريف المفضّل «للمؤسّسة اليهوديّة الأمريكيّة لمعاداة الساميّة»، دعا آلان ديرشوفيتز مؤخّرًا إلى حلّ أقسام الدراسات اليهوديّة في أمريكا، الّتي يدّعي أنّها "مليئة بمعادي الصهيونيّة".

تفاخر خطّة عمل معاداة الساميّة في «بنسلفانيا» بأنّ الجامعة "في شراكة فاعلة مع «اللجنة اليهوديّة الأمريكيّة»، مثل «رابطة مكافحة التشهير»، الّتي تعتبر "معاداة الصهيونيّة شكلًا من أشكال معاداة الساميّة". وقد تعهّدت الإدارة أيضًا بـ ’الرجوع‘ إلى تعريف «التحالف الدوليّ لإحياء ذكرى الهولوكوست» في مكافحة كراهية اليهود.

التوجّه الأيدولوجيّ نفسه يؤطّر «مركز دراسة معاداة الساميّة» الّذي أعلنت «جامعة نيويورك» إنشاءه مؤخّرًا. بينما يضمّ الفريق الاستشاريّ للمركز ثلاثة علماء في الدراسات اليهوديّة، بما في ذلك لورنس شيفمان، الّذي ساعد في تحرير مجلّد حول معاداة الساميّة المعاصرة، وليهي بن شتريت، الّتي كتبت عن إسرائيل-فلسطين المعاصرة، فإنّ تكليف المركز غير علميّ بشكل لافت. وفقًا للجامعة؛ فإنّ المركز "سيبحث في أشكال معاداة الساميّة الكلاسيكيّة، وكذلك معاداة الساميّة الجديدة وصلاتها بمعاداة الصهيونيّة". ولكنّ استخدام عبارة "معاداة الساميّة الجديدة" يكشف عن تحيّز معيّن؛ فهذا المصطلح قدّمه مسؤولون في «رابطة مكافحة التشهير» في عام 1974، ثمّ عزّزت المنظّمات اليهوديّة استخدامه في بدايات العقد الأوّل من القرن الواحد والعشرين، وذلك إلى حدّ كبير لتشويه صورة منتقدي إسرائيل والصهيونيّة.

من خلال تأكيد وجود معاداة ساميّة جديدة محدّدة ضدّ الصهيونيّة، يلاحظ ديفيد فيلدمان، مدير «معهد بيركبك لدراسة معاداة الساميّة» في «جامعة لندن»، أنّ «جامعة نيويورك» تبدو "كأنّها تقدّم إجابة عن قضايا يناقشها الأكاديميّون ويتعاملون معها بصفتها أسئلة. ما لم يجرِ تصحيح هذا التحيّز، فسيكون المركز مشروعًا أيديولوجيًّا بدلًا من كونه أكاديميًّا". ولتأكيد هذه النقطة، يتضمّن البيان الصحافيّ الّذي أعلن عن إنشاء المركز إشادة من المدير التنفيذيّ لـ «شبكة الانخراط الأكاديميّ»، الّتي "تعمل على معارضة الجهود الرامية إلى نزع الشرعيّة عن إسرائيل في الحرم الجامعيّ".

لمّا يتّضح بعد مدى خطورة هذه المبادرات الجديدة على حرّيّة التعبير في الحرم الجامعيّ. قد تمهّد الطريق لتعليق - أو حظر - فروع إضافيّة لـ «طلّاب من أجل العدالة في فلسطين»، كما فعلت بالفعل جامعات «برانديز» و«كولومبيا» و«جورج واشنطن»، وهي خطوة يمكن أن تكون لها عواقب على مجموعات طلّابيّة أخرى تُغضب المتبرّعين المؤثّرين، أو قد تُثبت عدم فعاليّتها، خاصّة إذا هدأ ضغط المتبرّعين. لكن في كلا الحالتين، قد تهدّد هذه المبادرات سمعة الدراسات اليهوديّة بصفتها مجالًا مخصَّصًا لدراسة اليهود نقديًّا، بدلًا من خدمة مؤسّساتهم الأكثر قوّة. أخبرني أحد أعضاء هيئة التدريس في «هارفارد»، طلب عدم الكشف عن هويّته، أنّ فريق العمل في «هارفارد» "يظهر انعدامًا تامًّا لتقدير قيمة الدراسات اليهوديّة بوصفها مصدرًا للدراسة الأكاديميّة". حذّر طالب دراسات عليا في الدراسات اليهوديّة في «جامعة نيويورك»، أنّ البيان الصحافيّ للجامعة الّذي أعلن المركز الجديد لمكافحة معاداة الساميّة "يهدّد بتقويض ما نقوم به كمجال دراسيّ".

لم تكن الجامعات الأمريكيّة المرموقة أكثر حرصًا، في تاريخها، على دراسة معاداة الساميّة ممّا هي عليه اليوم. وفي الآن نفسه، لم تظهر في تاريخها مثل هذا الازدراء للخبراء الّذين يمكن أن يساعدوا على فهم معاداة الساميّة. هذا الازدراء لا يهدّد الدراسات اليهوديّة فحسب، بل في بعض الجامعات الأكثر شهرة في أمريكا، يهدّد النزاهة الأكاديميّة نفسها.

 


 

روزَنَة: إطلالة على الثقافة الفلسطينيّة في المنابر العالميّة، من خلال ترجمة موادّ من لغات مختلفة إلى العربيّة وإتاحتها لقرّاء فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة. موادّ روزَنَة لا تعبّر بالضرورة عن مبادئ وتوجّهات فُسْحَة، الّتي ترصدها وتنقلها للوقوف على كيفيّة حضور الثقافة الفلسطينيّة وشوؤنها وتناولها عالميًّا.